وداعا أيها الوباء فإننا نشتاق إلى أزهرنا...

Mei 02, 2020


وداعا  أيها الوباء،  فإننا نشتاق إلى أزهرنا....

دعتني رغبتي إلى الخروج لأصافح العالم، بعد أن كنتُ معتكفا في غرفة صغيرة مليئة بالكتب كأنني رجلا كبيرا يجلس في وسط كتب قديمة بسوق الأزبكية. فنزلتُ من شقّتي كما نزل الأمير من قصره ولا يعرف أحدا من أفراد الشعب مع معرفتهم له. 
رأيتُ أكتافَ كلِ الدروب خاليةً عن المخلوقات سوى الكلاب والقطط،  وأفراد من الفقراء الذين لا يجدون سقفا غير السماء ولا سريرا غير التراب الذي يمشي عليه الأغنياء. أخذت أنظر يمينا وشمالا فما رأيت جمعا من الناس يمرون في السوق ويتزاحمون في الشوارع. ولا تلك الزقزقة التي يصدرها رجل صعيدي حينما يركب دابته وعليها يوسفي أو بلح أو بطيخ..

 فمررت بطريق ما بين جامع الأزهر ومسجد سيدنا الحسين،   فالتفت نظري لسيدي "الأزهر الشريف"، نعم هو سيدي الذي عاد شبابه بعد أن كان شيبا لكبر سنه و وهن عظمه. فإذا وجدته جالسا على أريكته كئيبًا حزينا واضعا كفيه في وجهه مثل الحكيم الذي أتهم بالخيانة، وحينما رأيت الباب مغلقا من الخارج يُخيل إليّ أن سور الحديد الذي دار حوله سجنٌ يحجزه عن معاملة أخلائه...

ثم وقفتُ أمام باب الأزهر أداعبه كما يداعب الإبن أباه الحزين، وأحاول أن أجعله مبتسما مشرقا بكل الطرق. ولكن هيهات هيهات بما حاولت...
فمسكت أصُبعا من السُوْر، مغمضا عيناي وهي نازفة دماء الشوق إلى أطلال الذكريات الجميلة. فأشعلتُ في نفسي مسرحيةً رأيتُ فيها شيخا معمما رأسه عمامة أزهرية ذات بياض وحمرة، تكأكأ حوله جمع غفير من الوفود جاؤوا من كل فج عميق ليستمعوا إلي درة من كلام الله وكلام رسوله. قرأ الشيخ فيه المتون ثم الشروح فالحواشي، فتفجرت ملامح وجوه الحاضرين بنور الفهم وسرور العلم و بهجة المعرفة وسعادة الإدراك.. متفائلين أن الملائكة تظلهم بأجنحتها، مرتاحين في جلوسهم لأنهم في روضة رسول الله..

ثم رأيت أسدا يخطب على منبره، والمجد في جبته والحكمة في عمامته،  واقفا كأنه رائد جيش جاهرا بالحق رافضا بالباطل،  يرفع راية العلم بنور الوسطية، لا يخاف لومة لائم ولو كان ذا قوة. فينشر على المستمعين لؤلؤا وزبرجدا كأنه فلاحا ينشر البذور في مزرعته، أو عطوفا يطعم الحَمَام بالمدينة المنورة..

ثم أرى لي منظرا نضارا لن أجده في بلدي إندونيسيا أبدا، ألا وهو أجواء رمضانية بالأزهر الشريف. حيث يقرأ الإمام بقراءات متواترة عن الأئمة العشر عن ظهر قلبه، والمصلون يسوون صفوفهم صفوفَ الجيوش لصلاح الدين الأيوبي  لتحرير الأقصى. ولا أنسى أبدا ذاك الشاب الذي يوزع كل يوم قرورة من الماء يسقي الظمآن في حرارة فصل الصيف أثناء الصلاة... لا ندري من هذا ومن أين كان،  ربما ملكا تجسد على صورة إنسان يخدم أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. الدنيا تسر برمضان حتى الطرق والشوارع مبتهجة به حيث زينوا أنفسهن بفوانيس ومصابيح ذات ألون متنوعة، ووقتها لا استطيع أن أفرق بين جمال الأرض بسماءها كأنهما توأمان..
فيا ليت شعري أن لا تزول هذه المواقف النضرة،  والأيام الجميلة عن كل عمرنا...اللهم لا تجعل قول "ليت" يفوتني..

                                         ***
فجأة...! وأنا في عالم ترفيهي، إسودت السماء،  وجاء غبار الفزع بما في ذلك من ظلام غامض كاد أن يجرني إلى جحر،  أو غار ذا سواد قاتم. فثمة صوت يهمس في أذناي :"لن يفتح لك الباب، الأزهر سيغلق في فترة بسببي.."
يا له من جرح حين أسمعه، الحافل بالآلام والأسقام مهما ترفق في طردي..
مَن هذا الذي يهمس في أذناي!!؟ من أنت يا سبب غلق الأزهر..!!؟
كيف أحرم من أزهرنا فإنه لا مصر دون الأزهر !! هو قلب مصر
 إذا كان النيل يسقي الأجساد فالازهر يسقي الأرواح.. ذاك يحيى الموت بمائه وهذا ييحي الأحياء بعلمه...
فكم من حي ميت لا حياة له وكم من ميت عاشت فضائله..
عاشت مصر دون الأهرامات، ولا ولم ولن تعيش بغير الأزهر دائما وأبدا..

واشوقاه...
واشوقاه...

واأزهراه..
إني لَفي شوق إلى جدران الأزهر ومنبره ومحرابه وساحته، أود في تقبيل ترابه والتبرك من مائه، أريد الجلوس في سجاده فيشفي كل عليل  ويهدي كل ضليل..

أيا حظر التجوال... أصبحتُ لا أعرف وجه الحيلة فى البعد عنك والفرار من وجهك. أنت أغلقت الصلاة والدروس وزيارة الأولياء...
ويا حضرة الوباء، اهمس في أذناي أنك ستغادر، عدني أنك لن تعود إلينا. فإن الدينا معك كالليل الفاحم والظلام القاتم..

فسكت مليا، وفتحتُ عيناي فإذا هي كالمطر  لا تريد التوقف عن البكاء.. أو كالرضيع الذي ينوح حينما لا يجد أمه. وصدري يتسارع ينفخ بأنفاس الحزن الحارة..

لا... ما ذعِرتُ ولا ارتعدت ولا حزنت ولا بكيت، وإنما هو إنفعال لا يحتمل..
وصبر لا يصبر.. وشوق يشتاق.. وبكاء يبكي.. وحزن يحزن.. دون وعيي

 فسمعت صراخا من داخل الأزهر، فإذا هو المنبر الذي في مظلة العثمانية،  قائلا : "إذهب وتوسل بسيدنا الحسين، ليخبر جده بالمدينة المنورة صلى الله عليه وسلم..
وتوسل بعلماء الأزهر الشريف..
توسل كما فعل الصحابة لحبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم
فإن كثيرا من دعاء الناس تحجبه ذنوبهم عن الإجابة وما لهم في ربهم من مقام.
سل الله به أن يرفع هذا الوباء عن أمة سيدنا محمد جميعها،  أمة الاستجابة وأمة الدعوة.. "

فالتفت نظري إلى المسجد سيدنا الحسين، فإذا نوره يتجلى من قبة المقام، والمسك الذي شممته لا يبلى مع الزمان. إلا أنني ما رأيت زحام الزائرين والعبادين، الذين جاءون لعبادة الله واستغاثته، وللتوسل بالصالحين كما علمهم نبيهم. فتوسلت بسيدنا رسول الله وال بيته وصحابته،  واختص بسيدنا الحسين لأني في حضرته. كما أمرني منبر الأزهر الشريف بذلك.

وبدأ بكائي يسكن،  وعيني تبتهج كأنها افطرت من صومها. وبدأ النهار يضيء والشمس تنير والسحاب ينكشف..

بإذن الله كل سيمضي ونختتم بخير وسعادة

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ

وقالوا " آخر الليل نهار..." 

القاهرة 13 من أبريل 2020

You Might Also Like

0 komentar

aLi_afifi_alazhari